الاثنين، 19 ديسمبر 2011

حكايت المسامير لدى فهد القيثامي











في معرضه التشكيلي (حكاية مسامير) يقدم الفنان فهد القثامي بحثاً تشكيلياً جريئاً، مشروعاً يطرح عبره خطابه وبحثه الجمالي من خلال التشكيل والتصوير الفوتوغرافي والفيلم السينمائي. المعرض الذي اقترح له الفنان عنوان (حكاية مسامير/ معرض تشكيلي- فوتوغرافي- سينمائي) كان يصدِّر البحث الفني وليس أدوات هذا البحث أو وسائطه ، لم ينفصل الفن الذي يقترحه الفنان عن أدواته أو موضوع بحثه، هما يمتزجان لكن موضوع البحث هو الذي يستجيب له التشكيل أو الفوتوغرافيا أو التوليف السينمائي، يطوره ويبعثه كذلك. (حكاية مسامير) هي الفعل الفني الذي يبحث فيه الفنان ويقرأ، يقترح ويسجل.

-
توجه كهذا (يقترحه فنان شاب في معرضه الثاني) فيه التفات إلى تغير عدد من المعايير والمحددات للتجربة التشكيلية- الجمالية. فالفنان نجح في تحويل طموح بناء السياق إلى مشروع بحثي، لم ينجز أعمالاً متفرقة لا رابط بينها (مستغرقاً في الخطوات القديمة) بل تقدم نحو سياق بحثي محاولاً تنظيمه ونظم ذاته من خلاله، لم يذهب إلى تحقيق اشتراطات المهارات أو اختبارات التحقق من الادوات بل تم التحقق من أدوات الفنان من خلال تجربته الذاتية/ الفنية.
هناك كد ذهني واضح يقف خلف إنجاز أعمال الفنان، وهناك حضور واضح لثقل اللحظة التي يعيشها العالم/ وخفتها وهي التي تعصف (يوماً إثر يوم) بكل السلالم المفترضة لقوانين العمل الفني. الرؤية التي تحمل الطموح والجرأة لتقديم جمالياتها الخاصة دون اعتماد القوالب الجاهزة والمكتشفة هي أقل ماتقدمه (حكاية مسامير).

-
التقاط الفنان للمسمار وطموح تحويله إلى مصدر لقراءة العالم وتمثيله، هو شروع في (الأدبي) أكثر من البصري- التشكيلي..لكن إحدى الإشارات التي أظن المعرض يطرحها هي هذا النزوع الجمالي الذي يستنطقه بحث الفنان (على الأقل) إلى اعتبار كل الفنون والطرائق التعبيرية أدوات من الممكن أن يطوعها الفنان في مختبره وفق حاجاته، هناك ذلك التمازج بين التشكيلي الذي يشكل أجساد أعماله وفي ذات الوقت يكتب نصه الخاص لدراما (المسامير) والذي سيضمه فيلم سينمائي فيما بعد، هناك الفوتوغرافي الذي يتحين في لحظات انغماره بتشكيل أعماله الزاوية المناسبة لاقتناص العمل بعد الانتهاء منه.
-
من جهة ثانية فإن ( المسمار) ولكونه منحوتة ناجزة ولها وظائفها المستقلة في الواقع ، لها تاريخها وحياتها ووجودها القوي ستكون محاولة تطويعه إلى أداة يمكنها أن تشكل وتتمثل هي محاولة جريئة/ في التفاتها إلى أدوات هذا العالم الذي نعيش بداية، فتوفر الأداة (المسمار) ووضوح استعمالاتها وتشكيلها يهدد خطاب الفنان الجمالي ويأخذ بمتلقيه مباشرة إلى الأداة أولاً وليس إلى البحث ...هذا جانب يمكننا أن نلمحه لو سلمنا بكون المسمار أداة وحسب لكنه ليس (الأداة وحسب) كما يطرحه القثامي فهو الأداة وموضوع القراءة والبحث أيضاً..وهنا ليس مفاجئاً حينما سنجد أن الفنان كان انتقائياً في قراءته، ممارساً للإسقاط الذاتي على المسمار ، الغنى الكبير للعالم الذي استطاع الفنان الذهاب إليه هو ما سيجعل متلقيه يكتشف تلك الانتقائية وذلك الإسقاط، ومحدودية تلك المساحات التي قام بتحريك بحثه خلالها ربما..لكن ذلك لا يلغي أنه (أي الفنان) هو من زج بمتلقيه في هذه المساحة الشاسعة بداية. أتاح جسد المسمار للفنان أن يتلاعب به، لكن الفنان لم يتمكن من تجاوزه ومحو صورته وبناء صورة تالية عنه.

-
الأعمال التشكيلية التي يقدمها القثامي في (حكاية مسامير) هي أعمال على سطوح خشبية، يمكننا أن نلمح فيها النزوع إلى تقويض اللوحة كمفهوم، فاللوحة تتداخل مع الأعمال النحتية في الأعمال التشكيلية التي يصنعها (القثامي). وبالرغم أن جميع الأعمال هي أعمال مسندة إلا أنه لا يمكن اعتبار الخشب مجرد حامل يمكن مقارنته بسطح لوحة القماش ، هو جسد تلعب أبعاده وقياساته دوراً مهماً في صياغة العمل التشكيلي وتلقيه، يبتعد الفنان في أعماله التشكيلية عن التلوين سوى في خلفيات الأعمال فيما تقوم المسامير بالسرد عبر تشكيلها، تضفيرها، صفها ، غرزها .. وهي الأدوات التي يبرع الفنان حقا في تشكيلها واستنطاقها/ غير أن ما يقدمه المعرض ليس هذه البراعة: وراء كل عمل يقف نص بصري يمكن سبره واختباره.
سيكون توزيع العناصر (المسامير) على جسد العمل، تناثرها، انعطافاتها، تشكلاتها، تحاورها، تمثيلها هو ما يصنع ( لا يرسم) الحكاية- الخطاب. صناعة العمل لاتتجه صوب البصر وحسب، فالباحث عن مشهد مكتمل لبناء لوحة تقليدية لن يجد ذلك، سيجد أعمالاً تنجح في تمكين المتلقي من تتبعها وقراءة تحولاتها والإنصات لأصواتها. نقرات المسامير واختلاف توزيعها من عمل إلى آخر سيصنع إيقاعاً / صوتاً يتنقل مع متتبع الأعمال أينما صوب بصره (وهذا تلاعب آخر في حكاية مسامير) .

-
المسامير ستجلب معها إلى سطوح الأعمال صفائح معدنية صدئة، أسلاكاً، قطعاً حديدية، هذه ستضيف إلى الأعمال تضاريس وطبوغرافيا، ظلالاً وحياة سينوغرافية غنية. مسامير حديدية مغروزة في خشب يمكنها أن تكون أعمالاً حية حينما تتفاعل مع الهواء ... سيتقادم عمرها بمرور الزمن، فهي لا تذهب صوب مناطق خلود الأعمال التشكيلية السالفة. بالإضافة لذلك فإن كولاجاً مستمراً يحضر في غالبية الأعمال لصور فوتوغرافية (منتزعة من مجلات أزياء على الأغلب) تظهر فيه إطلالات قريبة لنساء يوزعن نظراتهن الساهمة، الغامضة، الغاضبة على الآخر الذي يشاهد هذه الأعمال... تلك الصور الفوتوغرافية ستكون حياتها محدودة أيضاً فهي أدوات بحث جمالي وليست نتائج هذا البحث. البقاء ليس سؤالاً تذهب حكاية مسامير للإجابة عليه، نساء (حكاية مسامير) هن نساء من هذه اللحظة غير أننا لا نقبض على جغرافيتهن، فانفتاح الحكاية يبدو ممكناً على كل الأنحاء الإنسانية.

-
بدأت (حكاية مسامير) تشكيلياً كمحاكاة لآلات موسيقية ( وهي الأعمال الأولى في المعرض )، كصناعة أجساد مفترضة لآلات موسيقية غير مرتهنة للأشكال السائدة والمعروفة. غير أن بحث الفنان تقدم وبصورة لافتة حينما بدأت الأنثى بالظهور في أعماله ، كانت إطلالاتها غير المقتضبة على سطوح أعماله تخلق حالات مختلفة من المعالجات، فمن حالات التضاد التي يلجأ معها الفنان إلى عزل صورة الأنثى في إطار معدني، إلى محاولات التفصيل التي يندفع لها الفنان بعد ذلك في أعمال تتقصى الشفاه، العيون، النظرات...إلى محاولات استثمار ذلك الحضور في بناء سردي لحكاية أخرى.

-
احتضان أعمال القثامي لعالمه (على كل هذا التناقض – كأدوات على الأقل) يلفت نظر متلقيه على الفور. المنطقة الشخصية للغاية التي تقدمها المسامير والصفائح المعدنية تتقاطع مع منطقة أخرى (شائعة وتلفظها الميديا صباح مساء/ وهي تصنع صورة امرأة هذه السنوات) لحظة التقاطع هذه وأثرها هي ما يصنع جمال هذه الأعمال وغموضها وبساطتها، والفنان يمضي في منح أعماله حرية كبيرة عبر صفها في أعمدة يمكنها أن تنتقل بمرونة كبيرة ودون تغيير في البناء إلى أي منطقة أخرى/ بين أعمال المعرض وبأي كيفية.
-
وإذا كانت الأعمال الفنية للقثامي قد بدأت بمحاولات لتمثل الموسيقى فإنها ستختزل أشكالها تدريجياً في المعرض لتتقدم أخيراً في صورة جسد لكتاب ما يحتضن حكايات المسامير وأصواتها وتحاورها في أعمال أخيرة ربما كانت الأكثر نضجاً ففيها تصبح عناصر العمل أكثر تحديداً وكثافة وحضوراً.
-
بموازاة المعرض التشكيلي ثمة عدد من الأعمال الفوتوغرافية (بالأبيض والأسود) التقطها الفنان لتفصيلات من أعماله، لقطات بعدسة مقربة ستمثل قراءة تاليه من الفنان لما سبق وأنجزه في أعماله. وحتى لو بدت تلك القراءة أقل عمقاً من حيث انفتاحها على التأويل، فإنها ستساهم في إقامة بناء درامي حينما سينجح الفنان بعد ذلك في إعادة استخدامها وتوليفها في فيلم سينمائي هو (حكاية مسامير). الفيلم الذي يمكن لأي متابع أن يتساءل عن مشروعية وصفه بذلك( بالفيلم) كان عبارة عن عرض للصور بطريقة (الباور بوينت) لكن الحكاية التي تمكن الفنان من صياغتها قد استطاعت حمل العمل: الفيلم لأن يكون بطاقة جيدة لمشاهدة المعرض/ المشروع، وبرأينا فالفيلم (السينمائي) ورغم عدم توفر شروط ال(فيديو آرت) أو السينما فيه فإنه كان تعزيزاً للبحث الاساسي للفنان، مساهمته تكاد أن تكون جماهيرية أكثر منها فنية. مثلما كانت مباشرة الصور الفوتوغرافية (في المعرض) لا تكافيء انفتاح التجربة التشكيلية للفنان.
- (
حكاية مسامير) هو المعرض الثاني للفنان فهد القثامي والتجربة التشكيلية التي عرضها الفنان بمثابة اختبارات مبشرة لعالمه ورؤيته والمناطق التي يبحث فيها.
-
يبقى أن نشير إلى كون المعرض قد أقيم برعاية جمعية الثقافة والفنون بالطائف وكان لافتاً- ويستحق الإشادة- أن نشاهد فناناً شاباً يحمل طموحاً ومشروعاً تقدمه الجمعية، فيما كانت الإشارة الثانية التي يبعثها تنظيم المعرض هي تحول الطائف إلى مختبر تشكيلي فاعل ونشط عبر جماعة (تعاكظ) التشكيلية وبتواجد تجارب فنية جيدة ك( فيصل الخديدي- حمدان محارب) .
*
الكاتب عيد الخميس ,نشرت القراءة في العدد الأخير من (قوافل) الصادرة عن نادي الرياض الأدبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق